Saturday, November 15, 2014

تعليمات للمهندس


سواء تفاهمنا من النوع المتعلق بالمفاهيم, انت وضعت هذا التصميم الجميل لبيتي ومكتبتي منطلقاً من الإفتراض وهو إفتراض شائع جداً  للأسف بأن المهم في البيت هم الناس وليس الأشياء , لست أنتقدك لتبنيك وجهة النظر هذه , وهي ضرورية لرجل في مهنتك لا يمكنه الإستغناء عن الزبائن , ولكن مفهومي لبيتي المستقبلي هو النقيض ولعلمك :

في هذا الحيز الصغير المبني الذي سأدعوه عالمي وستحكمه نزواتي , ستكون الأولوية الأولي لكتبي ولوحاتي , أما نحن الأشخاص فسنكون مواطنين من الدرجة التانية , فهذه الاربعة ألاف مجلد والمئة لوحة قماشية وكرتونية وجرافيكية هي التي تشكل المبرر الأول  للتصميم الذي كلفتك به , وعليك أن تخضع راحة البشر وأمنهم ومتعتهم لراحة تلك الأشياء وأمنها .

وأن يكون بالإمكان تحويل المدفأة إلي فرن لإحراق الكتب واللوحات الزائدة هو تفصيل لا غني عنه في رأيي, ولهذا يجب أن يكون موقعها قريباً جداً من رفوف الكتب وفي متناول مقعدي, ذلك أنني أستمتع بلعب دور قاضي التفتيش مع البلايا الأدبية والفنية وأنا جالس , وليس وأنا واقف علي قدمي , وسأشرح لك ما أعنيه ,

الأربعة الاف مجلد  والمئة لوحة التي أقتنيها هي أرقام ثابتة , فلن أمتلك مطلقاً أكثر من هذا العدد , لكي أتفادي الفيضان والفوضي , ولكن هذه الكتب لن تبقي هي نفسها أبداً , بل ستتجدد دون توقف إلي أن أموت , وهذا يعني أنه مقابل كل كتاب أضيفه إلي مكتبتي , سألغي كتاباً أخر , وكل لوحة ليثوغرافية , خشبية, حفر علي الخشب, رسم بالفحم, حفر مختلط, زيتيتة, مائية, إلي اخره - تنضم إلي مجموعتي ستحل محل أقل الاخريات محبة إلي نفسي , ولا أكتمك بأنه من الصعب إختيار الضحية, بل أنه أمر مؤثر أحياناً, وأشبه بمعضلة هاملتية تبعث في نفسي الكابة أياماً, أسابيع وتعيد تكوين كوابيسي في ما بعد ,


في البدء كنت اهدي الكتب واللوحات المضحي بها إلي المكتبات والمتاحف العامة , أما الان فإنني أحرقها, ومن هنا تأتي أهمية المدفأة وقد إخترت هذه الصيغة القاسية التي تذر بهار التدنيس الثقافي أو المخالفة الأخلاقية علي القلق الناجم عن وجوب إختيار الضحية,




في اليوم, أو بكلمة أدق , في الليلة التي قررت فيها أن استبدل لوحة بديعة لسيزيلو مستوحاه من بحر باركاس بنسخة من لوحة علبة حساء كامبيللز متعددة الألوان لأندي وارهول, أدركت أنه من الحمق إلحاق الضرر بعيون أخري من خلال لوحة كانت قد توصلت إلي تقدير أنها غير جديرة بعيني , عندئذ ألقيت بها إلي النار . أعترف بأنني أحسست بندم غامض وأنا أري تلك اللوحة تحترق, أما الان فلم يعد يخطر لي ذلك , لقد بعثت بعشرات الشعراء الرومنطيقيين والإندسخيستا إلي النار , وبعدد لا بأس به من اللوحات غامضة المعاني والتجريدية واللاشكلانية والمناظر الطبيعية والتصويرية والدينية , لكي أحافظ علي العدد المحدد لكتب مكتبتي ومجموعة لوحاتي , دون ألم . بل بل بالإحساس المشجع بأنني أمارس النقد الأدبي والفني مثلما يجب ممارسته : بصورة جذرية , لا رجعة عنها , ووقودية وأضيف , كي أنهي هذا الإستطراد بأن التسلية تمتعني , ولكنها لا تفيد شيئاً في الإستثارة الجنسية , ولهذا فإنني أمارسها بصورة محدودة وفي الحدود الدنيا , كوسيلة روحية وحسب , ودون أي إنعكاسات علي الجسد.

أثق بأنك لن تأخذ ما انتهيت من قرائته الأفضلية التي أعطيها لللوحات والكتب علي ذوي القدمين من لحم وعظم علي أنه نوبة مزاح أو موقف مستهتر . الأمر ليس هكذا , وإنما هي قناعة متجذرة , ونتيجة لتجارب صعبة , ولكنها ممتعة في الوقت نفسه . لم يكن منالسهل علي التوصل إلي موقف يناق التقاليد القديمة ولندعها تقاليد إنسانية بإبتسامة علي شفاهنا - والفلسفات والديانات المؤمنة بمركزية الإنسان , والتي لا تستطيع أن تتقبل إعتبار الإنسان الواقعي , وهو بنيان من لحم وعظم محسوسين , أقل جدارة بالإهتمام والاحترام مما هو مبتكر , ذلك الذي يظهر وإذا كان يروقك أكثر نقول ينعكس في صورة الفن والأدب وسأعفيك من تفاصيل هذه الحكاية وأنتقل بك إلي النتيجة التي توصلت إليها والتي أطالب بها الان دون خجل , فليس عالم الأوغاد ذاتيي الحركة الذي نشكل أنا وأنت جزءاً منه هو الذي يهمني , أو الذي يجعلني أستمتع وأتألم , وإنما تلك الالاف المؤلفة من الكائنات المتحركة بالمخيلة وبالرغبات وبالبراعة الفنية , والماثلة في هذه اللوحات والكتب وأعمال الحفر التي تمكنت من جمعها بصبر وحب سنوات طويلة . البيت الذي سأشيده في بارانكو , والذي عليك أن تصممه بإعادة البدء ثانية في المشروع من البداية حتي النهاية , سيكون لتلك الأشياء قبل أن يكون لي أو لزوجتي الجديدة الباهرة , أو لأبني الصغير . هذا الثلاثي الذي يشكل أسرتي , دون أي تجديف , هو في خدمة تلك الأشياء مثلما يتوجب عليك أنت أيضاً أن تكون في خدمتها عندما تنتهي من قراءة هذه الرسالة  وتنحني علي طاولتك لتصحح ما أسأت عمله

ما أنتهيت من كتابته هو حقيقة حرفية , وليس تورية غامضة . سأبني هذا البيت لأعاني وأسعد معهم , ومن أجلهم ولأجلهم . فابذل جهدك في محاكاتي خلال الفترة المحدودة التي ستعمل فيها من أجلي
والان , ابدأ الرسم



مقطع من رواية
دفاتر دون روجوبيرتو - تأليف : ماريو بارجاس يوسا

ترجمة صالح علماني

اللوحة : علبة حساء كامبيللز  للفنان الأمريكي  أندي وارهول


No comments:

Post a Comment