Sunday, August 24, 2008

عفريت اسمه التمرد‏

عن جريدة الأهرام :
بقلم: نبيل عمر

التمرد عبارة قبيحة في كل مجتمع تقليدي‏,‏ فكرة سيئة في أي بيئة مطيعة‏,‏ شبح مطارد في عالم اليقين‏,‏ صرخة عالية في سماء الصمت‏,‏ رؤية جانحة في حياة هادئة‏..‏



والتمرد قرين الشك‏,‏ وقد يكون أبلغ ترجمة عملية بالصوت والصورة لفكرة الفيلسوف الألماني الشهيرة أنا أشك إذن أنا موجود‏,‏ وإذا كان الشك هو أول الطريق إلي المعرفة‏,‏ فالتمرد هو أول خطوة للسير فيه‏,‏ وشئ طبيعي جدا أن ينطلق التمرد في مواجهة السلطة‏,‏ أي سلطة‏,‏ سلطة الأب‏,‏ سلطة القبلية‏,‏ سلطة الكهنة‏,‏ سلطة المدرسة‏,‏ سلطة التقاليد والأعراف‏,‏ سلطة النظام العام‏,‏ فالسلطة منذ تأسيس أول جماعة انسانية هي قيد الحرية‏,‏ أداة ضبط وربط وتنظيم وخطوط مرسومة مثل إشارات القدر‏,‏ علي الإنسان الفرد أن يمضي حسب علاماتها وتعليماتها‏!‏ فالسلطة يلزمها الطاعة‏..‏

لكن الإنسان الذي تعد الحرية هي أثمن قيم وجوده لايتوقف عن الشك في جدوي هذه السلطة وأهدافها ومراميها وأساليبها وأسباب طاعتها‏,‏ فيحاول دوما أن يفرد لنفسه أجنحة ويحلق بها في سماوات بعيدة خارج المألوف‏,‏ أجنحة من التمرد‏..‏

وبالتمرد نهض الإنسان وأسس الحضارة وابتكر وجدد واكتشف‏,‏ فالإنسان الأول تمرد علي قوة الطبيعة وسطوتها وقسوتها‏,‏ فعمل علي أن يروضها‏,‏ ثم تمرد علي ظلام الكهف فبني أول مسكن‏,‏ وتمرد علي الجمود فهاجر إلي أماكن أبعد‏,‏ تمرد علي الجهل فصنع المعرفة‏..



الفارق بين التخلف والتقدم‏..‏ حالة تمرد‏.‏ التخلف مجتمع تعايش مع واقعه ورضي به وتقولب داخله‏:‏ قيما وسلوكا ومعرفة وعملا‏..‏ فيزداد تخلفه وتنمو حواجزه وتتسع قوائم المحرمات والممنوعات فيه باسم المحافظة علي استقراره وأخلاقه وقيمه‏,‏ وفي النهاية تسيطر عليه مخاوفه من التجديد ومن كل جديد‏,‏ فيحيا أسيرا لها‏!



التقدم مجتمع متمرد دوما علي واقعه ولايرضي به ويرفض أن يتقولب داخله‏,‏ فيقفز إلي التجديد وينسف حواجز حرية التفكير والإبداع‏,‏ ويدفع ناسه إلي المغامرة والتجريب‏,‏ ولايخيفه إلا العودة إلي الماضي‏..‏ فهو باحث نهم عن المستقبل ‏,‏ فيسابق الريح ولايسجن نفسه خلف أي أسوار‏

وقد شاهدت فيلما بديعا عن علاقة التمرد بالسلطة‏,‏ هو فيلم البوصلة الذهبية‏,‏ فكرة عميقة تفضح علاقة الود المفقود بين أصحاب السلطة والأرواح المتمردة‏,‏ فالسلطة هي أكبر غواية في تاريخ الإنسان‏,‏ من يسقط في حبائلها لايستطيع الفكاك من فتنتها وسحرها وقبضتها‏,‏ فيعيش لها وبها حتي لو تحول إلي وحش كاسر‏,‏ والتمرد هو تهديد دائم لهذه السلطة‏,‏ محاولة جادة لتقليصها وتهذيب مخالبها‏,‏ ضربة علي رأس عاشقها ومدمنها لنزعها منه أو لتدريبه علي حسن استخدامها‏..‏

وبالرغم من أن الفيلم حدوتة خيالية أسطورية تجري في قارة أوروبا في القرن التاسع عشر إلا أنها مبنية بالكامل علي صراع بين الحكام المهيمنين علي السلطة والروح المتمردة في الإنسان‏,‏ فهؤلاء الحكام يعملون بجدية مفرطة وتخطيط محكم علي نزع روح التمرد من الناس حتي يعتادوا علي الطاعة فلا يسألون ولايفكرون ولايهددون السلطة‏..‏

والإنسان في الفيلم له قرين داخلي أو عفريت هو أصل التمرد فيه‏,‏ يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته‏,‏ ويحضه علي التساؤل ورفض الطاعة المطلقة‏..‏ وهذا العفريت يخرج إلي الوجود علي شكل حيوان‏!‏

وفكر أصحاب السلطة كثيرا في التخلص من هذا العفريت القابع داخل الإنسان‏,‏ ورأوا أن الأجيال القديمة التي تمردت من قبل قد اعتادت علي الطاعة في النهاية وأدمنتها ولم تعد هذه العفاريت قادرة علي إعادة شحن طاقة التمرد فيها مرة ثانية‏,‏ فاستسلمت لقدرها ورضت بواقعها وأحنت رأسها ومشت جنب الحائط‏..‏ وعاشت لا تسأل ولاتعترض‏.‏

لكن الأجيال الجديدة مختلفة تماما‏,‏ مازال الحماس يسري في دمائها وروحها وثابة وعفاريتها في منتهي الشقاوة والتحريض‏,‏ ويمكن أن تشب عن الطوق وتنمو وتكبر وهي محملة بطاقة هائلة من التمرد‏,‏ وقد تهز أركان السلطة مستقبلا وتهدد أصحاب هذه السلطة‏..‏

والحل هو الفصل والعزل الدائم ما بين كل انسان وعفريته المحرض علي التمرد‏..‏ ووضع هذا العفريت في الأسر إلي الأبد‏.‏

وليكن هذه العزل مقصورا علي الأطفال‏..‏ حتي تكبر أجيال جديدة لاتعرف معني التمرد ولاتعيش إلا بالطاعة لأصحاب السلطة‏..‏

وبالفعل اخترع هؤلاء الحكام بمساعدة العلماء جهازا خاصا‏,‏ إذا وضعوا فيه الطفل‏,‏ يستطيعون إخراج عفريت التمرد منه فيأخذونه بعيدا ويقضون عليه‏!‏

وبالطبع يلجأ أصحاب السلطة إلي أساليب العنف والدهاء والخبث والخداع في تنفيذ هذا المخطط الجهنمي‏,‏ وينفونهم فيخطفون الأطفال من ذويهم ويسافرون بهم إلي الشمال‏,‏ حيث معمل فصل عفاريت التمرد‏!‏

فكرة أكثر من رائعة محملة بقيم جميلة ونبيلة‏,‏ تعلمنا إزالة الأتربة والصدأ عن عقولنا ونفوسنا‏,‏ ورفض المألوف من الأشياء والخروج عليها وتحطيمها وبناء عوالم جديدة دوما‏..

‏ ألم يفعل ذلك أفلاطون وأرسطو وجاليليو وفولتير وابن رشد ونيوتن وأينشتاين ومحمد علي وعبد الله النديم وجمال الدين الأفغاني وسلامة موسي ونجيب محفوظ وغيرهم؟‏


Saturday, August 2, 2008

وأخيراً , رحل يوسف شاهين

هذة التدوينة اعتقد انها ستغضب الكثير من عبدة يوسف شاهين , جائت فكرتها بعد موت شاهين الاسبوع الماضى , والذى جعلنى أفعل ذلك هو كم الغيظ الذى انتابنى , كلما قرأت خبرا عن يوسف شاهين فى الجرائد او على الإنترنت بعد وفاتة فإذا بى أجد رحيل الاسطورة , أو حدوتة مصرية بهرت العالم بالإضافة إلى بعض الأسئلة على جروبات الفيس بوك مثل : تخيل نفسك مذيع لمدة 5 دقائق بس ومستضيف يوسف شاهين , هتسألة إية ؟؟؟وهذة الاوصاف تجدها ايضا فى حياتة مثل يوسف شاهين مخاطب العقول أو المخرج العالمى وهذا ليس غريباً على مناخنا المنحط سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً فلا مانع من المزيد من الإنحطاط بمزيد من الأوصاف الأسطورية لمخرج نرجسى من إحدى دول العالم الثالث لا يقارن بإصبع بيرجمان أو لينش أو ستانلى كوبريك

يوسف شاهين حالة غريبة وإستثنائية جداً , فمخرج الناصر صلاح الدين والأرض وانت حبيبى هو نفسة مخرج هى فوضى والمهاجر والمصير وإسكندرية نيويورك

هذا التناقض الصارخ بين مستوى أفلامة يصيب بالدهشة حتماً , ألا يدفعنا هذا التناقض للتأمل قليلاً بحيادية لنتحرى الصدق فى تحديد المفاهيم ولئلا تختلط علينا الحقائق واهمها الموضـوعية فى النقد والقيــمة والــهدف من العمل الفنـى ومفــهوم العالمية فى السينـــما .

بداية عندما يطلق البعض لقب عالمى على يوسف شاهين فهذة كلمة خاطئة كلياً , فالعالمية لا تطلق إعتباطاً , راجع أحسن 100 فيلم فى تاريخ السينما العالمية لن تجد بينهم فيلم ليوسف شاهين , كذلك يمكنك مراجعة افضل 40 مخرج على مستوى العالم هنا لن تجد ايضا فيهم يوسف شاهين , راجع ايضاً ترقيم مستوى افلامة علىimdb ستجد معظمها يتراوح بين 4 و6 من 10 وهذة درجة تعتبر ضعيفة لا ترقى الى مستوى الهالة المحيطة بة دوماً .

إذا اخذت فى البحث والقراءة والتنقير بين السطور للأحداث المحيطة بفيلم الناصر صلاح الدين , فيلمى المفضل ليوسف شاهين ستجد إجابات قد تقترب من الحقيقة فيما يتعلق بهذا الفيلم بالذات والذى يأخذة الكثيرون حجة للرجل وبرهان على عبقريتة دوناً عن جميع أفلامة .

بديهياً , المخرج هو من يختار العمل الذى سيقوم بإخراجة وليس العكس , بداية اسيا هى الأساس وراء هذا العمل التاريخى الضخم , ويوسف شاهين لم يكن سوى أداة خدمة الحظ كثيراً , راجع أفلام اسيا , وستجد إهتمامها بالأفلام الملحمية والتاريخية , الناصر صلاح الدين , أمير الإنتقام ( حسن الهلالى ) , شجرة الدر , كان الفضل الأكبر يعود إلى هذة المنتجة الرائعة فى ظهور العمل بهذا الشكل وليس شاهين الذى كان جزء صغير جدا فى هذة الحلقة الكبيرة

معروف أيضاً أن من كان سيقوم بإخراج الفيلم عزالدين ذو الفقار ولكنة مرض أثناء كتابة السيناريو , وأضطرت اسيا ان تستعين بشاهين بعد ان رشحه لها عز الدين وكان هذا هو التعامل الاول بينهما

راجع القصة والسيناريو ستجد عمالقة مشتركين بة , يوسف السباعى , نجيب محفوظ , عبد الرحمن الشرقاوى , عز الدين ذو الفقار , محمد عبد الجواد , وهو السر فى تفوق هذا الفيلم من جميع نواحية بعيداً عن سيطرة شاهين وديكتاتوريتة ,( لم يختارهم يوسف شاهين ) قارن معى بين هذة الكوكبة وفيلم مثل المصير ( فيلم تاريخى ايضاً ومن إخراج نفس المخرج , ولكن بفارق بسيط , أن شاهين فى هذة المرة هو الكاتب ايضا والمتحكم فى كل شىء ومعة تلميذة الفاشل خالد يوسف , شاهين فى العمل الثانى هو المسئول الأول عن كل شىء فلا تستغرب ابداً ضعف المحتوى والاعتماد على الإبهار البصرى فقط وليس المضمون وعدم تركيزة على شخصية بن رشد ( راجع مقالة د. جلال امين ألحقتها بهذة التدوينة عن يوسف شاهين وأفلامة )

أتركككم للإستمتاع بمقالة جلال امين كتبها سنة 1997 وسط مناخ أسوأ كثيرا من الموجود الان , وجدتها وأنا أقلب أوراقى القديمة فأحببت أن أشرككم معى بإعادة قرائتها

مصير يوسف شاهين ومصيرنا معة

عن جريدة الدستور / الإصدار الأول ( 3/ 9/1997)

بقلم : د جلال أمين .

أقر منذ البداية بأنى ذهبت لرؤية فيلم المصير ليوسف شاهين وفى صدرى تحيز ضد يوسف شاهين وسأشرح للقارىء مصدر هذا التحيز ثم أشرح لة لماذا لا اشعر بالذنب بسببة ولا أعتبرة سببا يمنعنى من الكتابة عن الفيلم

بدأ هذا التحيز منذ اقل قليلا من عشرين عاماً عندما كنت فى لوس انجلوس وذهبت مسرورا لرؤية فيلم مصرى فى مهرجان دولى للسينما , كان هذا الفيلم هو إسكندرية لية , ليوسف شاهين لم يكن لدى وقتها أى شىء ضد يوسف شاهين , ورغم انى وجدت بعض الحسنات فى الفيلم فإنى لم أحبة , وخرجت وأنا أشعر ببعض الغضب لأنى شعرت بأن هذا المخرج يوجة الكلام للخواجات وليس للمصريين , يبحث عما يعجب الخواجات ويفعلة بصرف النظر عما إذا كان يتمشى مع روح المصريين وذوقهم وايقاعهم او لا يتماشى معها , ثم عرفت بعد إنتهاء الفيلم ان المخرج نفسة موجود فى دار السينما وانة مستعد للقاء من يريد من الجمهور لمنلقشة الفيلم فذهبت ووجهت لة هذا الانتقاد الذى ذكرتة حالاً بأدب تام ففوجئت بة ينفعل ويقول كلاما اعتبرت انة لا يخلو من غرور , ونفى نفيا باتا أن يكون فى الفيلم شىء يتنافى مع الذوق المصرى ,

المهم إننى لم أقتنع بردة ولا أعجبتنى طريقة الرد , وقد قرأت بعد هذا تعليقات كثيرة على ذلك الفيلم ( اسكندرية لية ) ذكر فى كثير منها ان الفيلم يقوم على السيرة الذاتية ليوسف شاهين فقلت لنفسى ( ما أهمية هذا ؟ )

سيرة ذاتية ام غير سيرة ذاتية ؟ المهم هو الرسالة التى يحملها لى الفيلم وطريقة تنفيذها ..هل نجح فى أن يقول لى وللمصريين شيئا ذا قيمة ؟ لا أعتقد ذلك

الفيلم خلاب من الناحية الشكلية نعم , ولكن هل يغفر هذا الجمال الشكلى عيوب الفيلم ؟ لا وانتهى الأمر فى نظرى عند هذا .

لم أكن قد رأيت أفلاما كثيرة ليوسف شاهين قبل اسكندرية لية , كنت قد رأيت الأرض قبل ذلك بزمن طويل وأعجبنى الفيلم جداً ورأيت فيلم العصفور ولم يعجبنى , إذ رأيت فية إفتعالاً وإصطناعاً وتشويشاً أما بعد إسكندرية لية , فقد ذهبت لرؤية وداعاً بونابارت وكان شعورى وأنا خارج منة هو نفس شعورى عند خروجى من إسكندرية لية ,إن لم أكن أكثر غضباً وكاد الأمر يحسم بالنسبة لى فيما يتعلق بيوسف شاهين على النحو الذى ذكرتة :

مخرج متحذلق , معجب بنفسة أكثر من اللازم , يخاطب الخواجات من فوق رؤوس المصريين

بعد بضع سنوات من وداعا بونابرت رأيت إعلانا عن أن فيلم حدوتة مصرية ليوسف شاهين سيعرض على بعد خطوات من منزلى فى سينما نادى المعادى وأن يوسف شاهين سيناقش الفيلم مع الجمهور بعد العرض , فذهبت وكرهت حدوتة مصرية بشدة وتسائلت بغضب بينى وبين نفسى

لماذا يظن مخرج أن من حقة أن يشغل الناس بوقائع من حياتة الشخصية لا مغزى لها على الإطلاق بالنسبة للمشاهدين ؟ ولماذا يظن ان ما حدث لة شخصيا يهم بقية الناس كذلك ؟

وفى المناقشة لم أوجة إلية لا سؤالاً واحداً ولا تعليقاً , إذ إنة فى حدود ما أتذكرة , أخذ يتكلم فقط دون أن يطلب من الناس الكلام , وأستغربت من حدة النرفزة التى كان يتكلم بها , دون أى مبرر وكذلك من إعجابة المفرط بنفسة

مبهر للعين ثقيل جداً على القلب

ثم مرت سنوات وجاء فيلم المهاجر وكان لابد أن أراة بسبب الضجة التى أحيط بها وحملة الدعاية المنقطعة النظير التى سبقتة وصاحبتة وأعقبتة ,فإذا بى أجد الفيلم ليس فقط تأكيداً لكل ما شعرت بة من قبل إزاء اسكندرية لية ووداعا بونابرت ولكننى وجدت أنة يحمل رسالة سياسية سيئة للغاية وكتبت مقالاً عنة بعنوان ( مبهر للعين ثقيل جداً على القلب ) شرحت فية ما فهمتة من رسالتة السياسية , فإذا بى أتعرض لهجوم من كل صوب , وكأن ليوسف شاهين أنصارا مسلحين منبثين وراء كل جدار متأهبين لأى بادرة نقد قد توجة إلية لكى ينقضوا على صاحبها وهو الذى يدعى أن رسالتة هى حرية الفكر والتعبير , وكانت لهجة عدم الإخلاص متوفرة فلى كل من هاجمنى على هذا المقال , ومن ثم ذهبت بى الظنون كل مذهب حول الدافع الحقيقى الذى يحكم تصرفات هؤلاء الأنصار المسلحين وإن كنت قد تلقيت أيضا بعض المكالمات التليفونية من اشخاص لا أعرفهم يعبرون عن موافقتهم التامة على تفسيرى لفيلم المهاجر .

مرت شهور كثيرة على هذة الواقعة ثم ذكر لى صحفلى أثق بما يقول أن صديقا رأى على شاشة التليفزيون الإسرائيلى فيلم المهاجر وقد أعقبتة ندوة لمناقشتة ذكر فيها المذيع الإسرائيلى ان فيلم المهاجر يدعو للتطبيع مع إسرائيل ولم يفلح فى إثنائى عن رأيى كل ما قالة يوسف شاهين فى تصريحاتة عن مدى عداوتة لإسرائيل فقد بدا لى أن المهم هو ما فعلة لا مايقولة.

ثم بدأ التمهيد لفيلم المصير ولا يمكن لذى عينين ألا يرى الة التخطيط الدعائية لهذا الفيلم , وحجم ما ينفق عليها , إنها حملة بديعة لها جدول زمنى محدد بدقة , تبدأ بأخبار مستثارة لا تثير اى شبهة الدعاية عما يجرى للتجهيز للفيلم ثم تتصاعد الحملة قبيل وأثناء وبعد مهرجان كان حيث تحتل أخبار الفيلم وكيفية استقبالة وصور يوسف شاهين الصفحات الاولى من الجرائد والمجلات ثم اخبار الجائزة الرائعة التى اعطيت لمجموع اعمال يوسف شاهين فى السينما قتنسب الى فيلم المصير بالذات على عكس الحقيقة , تعقبها برقيات التهنئة ورائل الى يوسف شاهين من اكبر شخصيات الدولة الذين أبدوا فجأة اهتماما شديدا بفن السنما , الى اخبار ذكاء هذا الفنان الكبير لو ذاك تأثرا بحصول يوسف شاهين على الجائزة , الى الاحضان التى يتلقاها يوسف شاهين من هذة الشخصية الكبيرة أو تلك , حتى من بين بعض أعداء التطبيع لإسرائيل , مما لة أهمية خاصة ومغزى خاص.

ثم يصل الفيلم إلى مصر , فتقام حفلا خاصة يدعى إليها صفوة القوم من المسئولين وأصحاب الفكر والرأى قبل أن يبدأ عرض الفيلم فى عدد غير مسبوق من دور السينما فى الجمهورية المصرية بأسرها , بعضها بترجمة إنجليزية وبعضها بترجمة فرنسية وبعضها بدون ترجمة , حتى أن صديقاً لى قال ضاحكاً إن هناك شائعة قوية فى البلد بأنة من لم يذهب لرؤية فيلم المصير سيجرى التفريق بينة وبين زوجتة !

وفى نفس اليوم الذى يبدأ فية العرض على الجمهور تظهر المقالات فى الصحف والمجلات التى تشيد بالفيلم لابد ان كتابها قد رأوا الفيلم فى العروض الخاصة , ووجدوا حافزاً كافياً للجلوس بمجرد خروجهم من العرض الخاص للكتابة والإشادة بالفيلم .

وفى اليوم التالى مباشرة لبدء عرض الفيلم على الجمهور قرأت مثلاً فى مجلة أسبوعية مصرية مقالين عن الفيلم, أحدهما بقلم رئيس التحرير يصف الفيلم ومخرجة بالصفات الاتية :

أخطر حدث ثقافى وفنى تشهدة مصر فى هذة الأيام , ومن المؤكد ان تأثيرة سيمتد الى المنطقة العربية كلها . إنة رسالة حب للحياة .. صاحبة الفنان العبقرى .. يوسف شاهين يخوض بهذا الفيلم معركة شرسة ولكن بشجاعة هائلة .. بصدر مكشوف ولكن بقلب عامر بالحب وعقل واع تماما .. يتوج رحلتة الفنية العامرة .. يرفع صوتة منبهاً وشارحاً .. يقدم درساً بليغاً فى حرية الفكر والإبداع .. أيها المقاتل الشرس .. إلخ إلخ ..

أما المقال الاخر المدهش فى نفس العدد فيحتل 4 صفحات ومحلى بالصور ويحمل العنوانين الأتيين : السينما الجميلة عند جو دائماً ممكنة ( وجو هو اسم الدلع الذى يحب يوسف شاهين ان ينادية الناس بة )

بعد 1000 يوم بكى يوسف شاهين ولماذا بكى ؟ لأنة عندما رأى اول نسخة من الفيلم وهو مكتمل بكى وقال : برافو عليكم , هو دة الى كان فى دماغى بالضبط

وتحت صورة نور الشريف بطل الفيلم كتب نور الشريف : كنت مستعداً للعمل مع جو بدون أجر

وتحت صورة ليلى علوى : جو ملىء بالأسرار والحيوية

والمقالة كلها تسير على هذا النحو

ليست هناك كلمة نقد واحدة

ليس هناك عيب واحد يمكن أن يذكر

ولم لا ؟ فكاتب المقال يبدأة بقولة :

من اللحظة الأولى وفى مشهد النهاية يظل السؤال يطاردك ويطاردك : لماذا أنا منبهر ؟ ما كل هذا الإعجاب ؟ما الذى يسبب لى هذة الحالة من الإنسجام والنشوى والإستمتاع ..؟

وفى المقال العبارات الاتية : فيلم جديد للعبقرى ..

( حكى لى خالد يوسف المخرج المساعد للأستاذ , حكى لى عن جو البسيط السهل الديموقراطى جدا والمعذب جدا بكل الحب ..)

السيناريو كتب 21 مرة

هو مخرج ليس عبقريا ولا نادرا فحسب وإنما هو عاشق لفنة يعنى عملنا فى المصير حاجة عمرى ما عملتها قبل كدة .

( ومع كل الجهد الذى بذلة فى المناقشة مع جو وقراءة عشرات المراجع )

(جو ملىء بالأسرار .. وتوجهة الدائم يعود لألف وألف سبب ..)

هو أيضا ممثل عبقرى .....

حيث إن دة أول فيلم لة وبدايتى فى السينما مش عارف اية

قرأ عشرات الكتب ليتحسس عصر الخليفة المنصور ...

رأينا بإختصار شديد قنبلة لا يقدر على صنعها إلا يوسف شاهين ...

هذا كلام لا يقال عن إنسان بل عن شخصية أسطورية أو مقدسة والمفروض ان اى إنست سوى , ومن لحم ودم ولا يعانى من شعور مبالغ فية بالعظمة لابد أن يشعر بالنفور الشديد إذا سمع أحدا يصفة بهذة الأوصاف وهو كلام أشبة بما يكتب فى مدح الشخصيات الدينية منة بما يكتب عادة عن الفنانين فهذا ليس نقدا فنيا بل تقديس.

وعبارة ( ومن العجيب ان كاتب هذا المقال لم ينضم الى الجماعات الدينية المتطرفة وانة اعجبة الفيلم رغم هجوم الفيلم الشديد على هذة الجماعات )

ولكن هذا الكلام يذكرك ايضا بما يكتب عن الزعماء والرؤساء العرب ولابد أن كاتبة قد تأثر بمناخ الإنحطاط العام الذى يتسم بة المناخ السياسى الذى نعيش فية.

لكل هذا ذهبت لرؤية فيلم المصير وأنا متحيز ضد الفيلم ومخرجة وأنا كما سبق ان ذكرت لا أجد فى هذا موجبا للإعتذار او للشعور بالذنب , ليس هناك خطأ فى أن تقبل على قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم أو حتى إجراء تجربة فى المعمل وأنت متحيز بل أكاد أقول إن نوعا من التحيز ضرورى ومطلوب فلا أحد يطالب بأن يبدأ شيئأ من هذا وذهنة كالصفحة البيضاء الخالية من اى افكر وتحيزات سابقة فنحن ادميون من لحم ودم ولسنا ماكينات تصوير أو تسجيل وحتى العالم الذى يدخل معملة لإجراء تجاربة ما كان ليدخل المعمل أصلا لولا انة مدفوع بفكرة معينة يريد أن يتحقق مما إذا كانت صحيحة أو خاطئة .. للفيلسوف البريطانى برتراند راسل عبارة عن كلمة ترجمتها العقل المفتوح على الدوام هو عقل فارغ على الدوام وبتعديل طفيف لا يغير من معناها ( العقل الخالى من أى تحيز هو عقل فارغ ) الخطأ ليس فى التحيز المسبق بل فى أن تسمح لغيرك لتحيزك المسبق بأن يؤثر فى حكمك فلا ترى ما لا تحب أن تراة مع أنة موجود أو أن ترى ما ليس بموجود لمجرد أنك تحب أن يكون موجوداً

فماذا رأيت فى الفيلم ؟ رأيت أشياء جميلة جداً وأشياء سيئة للغاية , كل لقطة تحفة , المناظر خلابة , والديكور رائع وتكوين كل منظر أشبة باللوحة المرسومة بعناية وجمال فتان , بل ان الوجوة التى اختارها يوسف شاهين للتمثيل كثير منها وجوة رائعة الجمال , نساء ورجالاً والتمثيل أيضاً رائع , لا أظن أن واحداً من الممثلين لم لم يؤد دورة بمهارة فائقة وعلى الأخص فى رأيى نور الشريف ومحمد منير , نور الشريف يعود فيؤكد مقدرتة العالية وذكاءة فى فهم خلجات النفس فيأتى بأداء مقنع للغاية أذكر بالذات أداءة لمشاعر الغضب الشديد إزاء الأمير الصغير عبد الله الذى ظن أنة بمنع الناس من الغناء ينفذ إرادة الله ! هذا الثناء على نور الشريف لا يتعارض فى إعتقادى ان تفسير الفيلم لشخصية بن رشد كان تفسير غير حكيم بالمرة كما سأبين فيما بعد ولكن الخطأ هنا يس خطأ نور الشريف , أضيف أيضا ان موسيقى كمال الطويل فى الفيلم رائعة كما هى دائماً .

فإذا انتقلت من الجوانب الإيجابية والناصعة فى الفيلم الى الجوانب التى يمكن أن يثور حولها الشك والنقاش وذلك قبل أن أناقش ما اعتبرة جوانب سلبية تماما , أذكر أولاً لغة الحوار فقد صدمنى فى البداية ان أجد الناس فى عصر بن رشد يتكلمون بالعامية المصرية ولكن مع إستمرار الفيلم تعودت على العامية وإن كنت مازلت أشعر بالأسف لأن المتفرج على الفيلم قد حرم من هذة الفرصة للإستمتاع إلى كلام جميل وفصيح بلغة عربية راقية , كما كان يتكلم مثقفو الأندلس فى عصر حقق كل هذا الإزدهار فى اللغة والأدب والشعر , إنى أدرك أن لإستخدام العامية المصرية حتى لتصوير حقبة كهذة مزاياة كالوصول إلى جمهور أكبر من ناحية والقدرة الأكبر على التعبير , من خلال الفيلم عن مشاكل راهنة ولكن خلاصة رأيى فى نهاية الأمر أن الخسارة بإستخدام العامية كانت اكبر فمن المؤكد ان تصوير شخصية بن رشد كان لابد ان يكون اقرب كثيرا من الحقيقة لو جعلناة يتكلم بعربية فصيحة كما كان يتكلم بالفعل وان روح العصر كلة كان يمكن ان تصل إلى المتفرج بشكل اقرب الى الدقة لو أستخدمت لغة العصر نفسة أما ما قد نفقدة من القدرة على التعرض لمشاكل راهنة لو أستخدمنا الفصحى فمن المشكوك فية ان هذا الإسقاط على الواقع الراهن كان موفقا على أى حال مما سأتعرض لة بالتفصيل بعد قليل .

هناك أيضا هنات او نقاط ضعق هينة متناثرة هنا وهناك ليست خطيرة ولكنها تستحق الذكر , كثيرا ما بدا لى مثلاً اثناء مشاهدتى للفيلم ان المخرج مستعد للتضحية بالواقعية والمعقولية فى سبيل إظهار صورة جميلة وقد يكون غعتبار هذة التضحية مقبولة او غير مقبولة مسألة ذوق ومزاج ولكن إذا وصلت درجة عدم المعقولية الى حد معين لا يسع المرء إلا ان يشعر ان الامر تعدى دائرة المسموح بة ووقع فى الخطأ مثال ذلك الجزء الخاص بهروب الشاب الفرنسى يوسف المتيم بفكر بن رشد والذى راح ابوة ضحية ترجمتة لبعض كتب بن رشد إذ حرقتة الكنيسة حياً , فالشاب يوسف يهرب ببعض كتب بن رشد الى فرنسا لينقذها من الحرق فى الأندلس عندما بدأت الدوائر تدور على بن رشد وفى رحلتة الى فرنسا نرى هذا الشاب يمر بمناطق خضراء رائعة الجمال وبحيرات تخلب اللب ولكنة أثناء هذة الرحلة أيضا يقوم بأعمال تذكرك بأعمال طرزان فى أفلامة الشهيرة مع أن شابا كهذا يهوى القراءة والعلم والفلسفة ومن المستبعد ان يكون من النوع الذى يتسلق الأشجار بسهولة ويعبر الأنهار وهو متعلق بفروع الشجر ! كذلك فإن منظر أمة الفرنسية فى بداية الفيلم وهى تهوى على الأرض ميتة بعد أن فرت هاربة فى أعقاب رؤيتها لمنظر حرق زوجها , منظرها وهى راقدة على الأرض فى أبهى حلة وأتم زينة وكأنها خارجة من حفلة عشاء وليست كالهاربة هى وولدها من خطر الموت , هذا المنظر قد يكون خلابأ للنظر ولكنة غير مقبول عقلاً .. لم يبال يوسف شاهين أيضاً فيما يبدو بأن زوجها وهو يحترق كان هو بدورة يبدو وسط النيران وكأنة سليم مائة بالمائة , وكأن النار المحيطة بة فى درجة تأثيرها علية هى كالنار الخارجة من مسدس طفل صغير

أهم من ذلك إمتلاء الحوار بالمواعظ والحكم وكأن صانعى الفيلم لا يريدون ان يتركوا شيئاً لتخمين المتفرج أو تفكيرة , فالأفكار جاهزة وتامة الصنع وواضحة تماماً والصراع هو بين الأبيض والأسود , بل ولا بد أن يخبر المتفرج بإستمرار أى الطرفين أبيض وأيهما أسود , أيهما خير جداً وأيهما شيطان رجيم , وليست هناك حالة واحدة أو موقف أن شخصية تركت للمتفرج حرية تقليب الرأى فيها وإعمال الفكر للوصول إلى الحقيقة , هذة الطريقة المباشرة فى إصدار الحكم على الأشياء وإعلانها بكل فصاحة على المتفرجين , كنا نظن أت الفن قد تجاوزها منذ زمن , خاصة إذا كان الفنان عبقرياً إلى هذة الدرجة , فالفيلم من هذة الناحية يمكن أن يعتبر تطويرا بسيطاً لمدرسة يوسف وهبى الذى كان فى ذهنة تماماً أنة يخاطب جمهوراً محدود الذكاء قليل الحظ من التعليم , فلا بد أن يخبرة بكل شىء , ويحسم لة كل قضية

وقد قرأت فى بعض الأخبار التى نشرت عن الفيلم ان هذا العيب بالضبط هو الذى حرم الفيلم من الحصول على جائزة فى مهرجان كان والذى جعل الجائزة تذهب إلى مجمل أعمال يوسف شاهين وليس لفيلم المصير بالذات وتفضيل الفيلم الأيرانى علية

ولا أدرى مدى صحة هذا الخبر ولكن أميل إلى تصديقة بعد أن رأيت الفيلم .

ولكن ماهى الموعظة الأساسية فى الفيلم ؟ لا بد أن تكون هى بدورها موعظة بسيطة وغير معقدة , مادام الهدف هو الوصول إلى هذا الجمهور الواسع ..

الموعظة هو ضرورة السماح بحرية الفكر والتعبير وان اى محاولة لتقييد حرية الفكر والتعبير هى عمل شرير وان تنجح على اى حال , لأن الفكرة لا يمكن قتلها بل أن لها بطبعها طريقة فى البقاء والغنتشار أو على حد تعبير يوسف شاهين , الأفكار لها أجنحة , محدش يقدر يمنع توصيلها للناس وهى الجملة وبهذة الألفاظ بالضبط التى يراها المتفرج مكتوبة على الشاشة فى أخر الفيلم وتحتها بتوقيع يوسف شاهين , فكما ترى لا يكتفى المخرج بما قالة عدة مرات بوضوح تام خلال الفيلم بل ويضعها مكتوبة على الشاشة فى النهاية بصريح العبارة وممهورة بإمضاءة خوفاً من ان ينسب الفضل فى هذة الحكمة الغالية لغيرة , ومن الممكن للمرء ان يجادل يوسف شاهين فى هذا بأن يقول مثلاً : إن حرية التعبير ليست دائماً شيئاً مرغوباً فية , فهناك حالات يمكن ان نتصور ان يكون تقييد حرية التعبير فيها أفضل من إطلاقها , كما لو حاولت مثلا تطبيق مبدا حرية التعبير فى شتم الناس فى الطريق العام بل أن حرية التفكير نفسها وان كان من الصعب تصور ان يترتب عليها اى أذى إن لم تقترن بحرية التعبير, يصعب تصور انها تتحقق مطلقة فى أى زمان ومكان فالتفكير فى كل عصر وفى كل مجتمع دائما مقيد ببعض الأولويات التى يؤمن بها أفراد المجتمع ايمانا أعمى ودون تفكير كفقدان الناس لحرية الشك فى وجود الله فى العصور الوسطى فى أوروبا وفقدانهم الان فى اوروبا ايضا وأمريكا حرية الشك فى حق ممارسة الجنس قبل الزواج قبل الزواج مثلا بل وقد يذهب المرء إلى الإعتقاد بأن درجة من هذا القبول دون نقاش لبعض المسلمات قد تكون ضرورية لإستمرار المجتمع ووجودة وتماسكة .

ليس غرضى الان مناقشة يوسف شاهين فلى هذا وإنما فقط أن الفت النظر إلى أن رسالة الفيلم ليست بالغة العمق بالدرجة التى يتصورها كثير ممن كتبوا عن الفيلم

كل هذة الأشياء هنات بسيطة ليست كبيرة الضرر بل وقد لا يكون لها اى ضرر على الإطلاق , اعتراضى الاساسى على الفيلم يتعلق بنقطة أجدها مصدرا لضرر مؤكد , وهى للاسف نقطة محورية فى الفيلم بل فكرتة الأساسية , بل أنى اعتقد اسفا انها هى التى دعت يوسف شاهين ومجموعتى إلى إخراج هذا الفيلم أصلا إلى الوجود , وهى التى ضمنت للفيلم الحصول على التمويل اللازم , وهى التى تجعل بعض الجهات حريصة على نجاح الفيلم والترويج لة وإتاحة أكبر فرصة لة للإنتشار .

هذة النقطة هى تلك الثنائية الفظيعة التى يحاول الفيلم أن يصورها بين الإرهاب الدينى فى أقصى صورة غلوا وإجراماً وحماقة من ناحية وبين العلمانية فى صورة من أكثر صورها غلواً والإستغناء التام عن الدين من ناحية أخرى وكأن الأمر يقتصر على هذا وان الصراع الوحيد القائم بين هذا وذاك وأنة ليس أمامك خيار إلا بين هذين الشيئين :

أن تكون إرهابياً مجرماً أو ان ترقص مع ليلى علوى

وهذا كما ترى تبسيط مخل جدا للقضية وتشوية فظيع للحقيقة وانا مثلا متأكد ان فى الامر تشويها للحقيقة لأننى أعرف جيداً عن نفسى اننى لست مجرما ارهابيا وفى نفس الوقت لا ارى ان الموقف الوحيد من الدين المتبقى لى بعد ان استبعدت الموقف الإجرامى هو الرقص والغناء مع ليلى علوى والمدهش جدا والمؤسف جدا ايضا ان الفيلم يوحى إحياء قويا جدا بأن موقف الفيلم , هذا هو ايضا موقف رجل عظيم ذى عقل جبار هو بن رشد , صحيح اننا لم نر بن رشد يرقص ويغنى مع ليلى علوى ولكنة طبقا للفيلم يكاد ان يفعل ومن حق المرء ان يتساءل : ما هى يا ترى عشرات المراجع التى قيلت ان يوسف شاهين قد قرأها عن بن رشد ليصل الى هذا الفهم لاراء الرجل ؟ وما الذى وجدة يوسف شاهين مثلا فلى كتاب ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال , مما أوحى لة بهذا التفسير لموقف بن رشد ؟ وما الذى تمثلة ليلى علوى يا ترى من افكار هذا الكتاب : الشريعة أم الحكمة ؟

هناك بالطبع مواقف اخرى من الدين غير الموقفين اللذين صورهما الفيلم , مما لا يكاد يحتاج إلى بيان أو ذكر ولكن الفيلم اختار هذة الثنائية الفظيعة ليصل بالطبع إلى غرض معين سنتبينة بعد قليل , كما ان هذا الأختيار يسمح للفيلم بالطبع بتحقيق أهداف أخرى ثانوية فالفيلم فى نهاية الامر , فيلم سينمائى وليس كتابا او محاضرة ولا بد ان يصل الى حمهور واسع يدخل السينما فى الاساس ليتسلى لا لكى يفهم اراء بن رشد والتسلية فى نظر مخرجى هذة الايام لا تتم الا إذا توافرت للفيلم درجة لا يستهان بها من الجنس وربما درجة من الإباحية تتضمن بعض الشذوذ الجنسى فضلا عن وجوة جميلة من الجنسين ولا ضرر ابدا من بعض الغناء والرقص وانا وان كنت ضد الترويج للإباحية والشذوذ الجنسى فى الفن فلست ضد الوجوة الجميلة وبعض الغناء والرقص ولكننى اشعر بالغم الشديد عندما يستخدم كل هذا فى فيلم المفروض انة يتخذ موقفا من الدين فيجعل للدين شكلا واحدا مرعبا وكريها للغاية وفى مقابلة كل هذه الاشياء الاخرى ولا يبرر ذلك إلا هذا التبرير الواهى ( الافكار لها اجنحة ) أو بالاغنية التى تتكرر خلال الفيلم وتحمل رسالتة ( على صوتك بالغنا , لسة الاغانى ممكنة , حسناً لا باس من ان تعلى صوتك بالغناء ولحسن الحظ ان الاغانى مازالت ممكنة والأفكار لها بالفعل أجنحة ولكن لماذا تستبعد تماماً موقفا جميلا جدا وراقيا للغاية ويتضمن العناصر الاتية : إيمان عميق بالله واحترام تام للمقدسات الدينية , واحترام تام للمتدينين ماداموا مخلصين وغير معتوهين بل أذكياء ومتعلمين ومحبين للناس ومحبين للحياه , ربما فى ذلك بعض الغناء وبعض الرقص دون اباحية فأين هذة العناصر فى الفيلم ؟ قد يقول يوسف شاهين : هكذا حاولت تصوير شخصية بن رشد ولكنى أقول ليست هذة هى الصورة التى تصل من الفيلم عن بن رشد فابن رشد فى الفيلم محاط بإستمرار بمجموعة من الناس هم كما وصفت لك هم المنتصرون لة وهم الذين يصفقون ويرقصون عندما يحدث لة شىء سار , وهم الباكون عندما يحدث لة شىء سىء هذة المجموعة هى مجموعة ليلى علوى التى ا تتميز فى الفيلم بالميل الى الفكر العميق او الراى الثاقب بل بالرقص والغناء وحولها مجموعة من الناس أهم ما يميزهم هو إجادة الغناء والرقص وهكذا اصبحت المقابلة والمفارقة طوال الفيلم هى بين الإجرام والرقص.

نعم نجح المخرج ونور الشريف فى الا يخرجا بن رشد عن وقارة ولكنة كاد ان يخرج عنة .. نعم لم نر بن رشد فى الفيلم يفعل شيئا ضد المقدسلت الدينية ولكننا ايضا لم نره يفعل شيئا يدل على عمق ايمانة بل واحترامة لها , بينما نراة يكاد يبكى تأثراوموافقا عندما شاهد من حولة يرقصون ويغنون .

ألم يكن ممكناً ان ينفق الفيلم بضع دقائق لكى ينقل للمتفرج فكرة عن الجهد العقلى الجبار الذى بذلة بن رشد للوصول الى ما وصل الية من افكار ؟ ألا يستحق إختلاف الرأى بينة وبين صاحب عقل جبار اخر هو الغزالى ان يتوقف الفيلم عندة ولو للحظة واحدة ؟ ألم يكن هذا جديرا بأن يشحذ ذهن المتفرج بعض الشىء ويعيد بعض التوازن الى مناقشة العلاقة بين العلم والدين وهى المشكلة التى جرت العقول على مدى قرون طويلة ومازالت تحيرهم حتى الان ؟ ألم يكن امام يوسف شاهين إلا ان يختار هذا الحل السهل جدا للمشكلة التى أرقت الغزالى وبن رشد فيختار رقص وغناء ليلى علوى ؟ وإذا كان هذا هو كل ما بإستطاعتة ان يفعل بحكم إستعدادة الشخصى وقدراتةوطبيعة الفن السنمائى , وإن كنا قد رأينا امثلة كثيرة لإستخدام الفن السنمائى استخداما أعمق بكثير إذا كان المنتج والمخرج على استعداد للتضحية بإعتبارات الكسب المادى .

إذا كان الأمر كذلك فلماذا يقحم نفسة على موضوع كإبن رشد ؟ ولماذا لا يترك بن رشد لشخص اخر يعالجة معالجة أكثر حكمة وأكثر دراية بالقضايا الفلسفية التى كانت تشغلة فلربما أبقى صورتة فى أذهان الناس والمسلمين خاصة , صورة توحى بإجلال واحترام أكبر بدلا من ان يرتبط فى الاذهان الى الابد بالرقص والغناء ؟ ومع كل هذا فليس هذا هو أكثر ما أغضبنى فى فيلم يوسف شاهين .. كان هناك منظر بالذات أثر فى نفسى تأثيرا شديدا وكاد ان يدفع بالدموع الى عينى من فرط الغيظ , هذا المنظر هو منظر احراق كتب بن رشد , وقد ألتفت جماعات من المسلمين حول كومة الكتب المحترقة تهتف بأعلى صوت : ( الله أكبر – يحيا العدل )

قلت لنفسى وأنا أشعر بإنكسار شديد فى النفس : هاتان العبارتان الإسلاميتان : الله أكبر ويحيا العدل , هل من العدل ان يستخدما للتعبير عن فرحة المسلمين أو جماعات منهم بهذا العمل الإجرامى : إحراق الكتب ؟ ألم يكن من الممكن استخدامهما استخداما يجعل المتفرج يتعاطف مع الدين الإسلامى ؟ كما فعل مثلا فى فيلم عمر المختار الذى كان الهتاف الله أكبر يقترن فية بأنبل الأشياء كإخراج المستعمر الأيطالى من ليبيا

وهل يكفى القول بأن هذا هو موقف بعض الجماعات الإسلامية فقط ؟ جماعات المجرمين منهم ؟ كلا يكفى , إذ هل أرانا الفيلم مسلما اخر ولو حتى شخصا واحدا يهتف الله اكبر ويحيا العدل عندما أنقذت بعض كتب بن رشد ؟ لا , لم يفعل الفيلم هذا لا يمكن ان يسمح المخرج بأن يقترن هذان الهتافان الغاليان على المسلمين بعمل طيب وحتى لو كان المخرج على استعداد لهذا فإن ممولى الفيلم لا يمكن ان يسمحوا بة .. انما كان الابتهاج بإنقاذ بعض كتب بن رشد هو فقط بين أفرادمجموعة الراقصين والمغنيين فضلا عن الشاب الفرنسى الطيب الذى تجشم عناء شديدا لإنقاذ بعض هذة الكتب .

لا أريد ان اختم هذا المقال دون الاشارة الى نقطة مهمة تتعلق بفرح كثير من المصريين بما حصل علية يوسف شاهين من تقدير كبير فى مهرجان كان وغيرة

فكثير من المصريين قد يوافقون معك صراحة او ضمنا على كل هذة الإنتقادات ولكن يحز فى نفوسهم ان تشوة صورة فنان عظيم مثل يوسف شاهين وان ينتقد رجل جلب لهم كل هذا المجد فى المحافل السينمائية الدولية وكأنهم يقولون لأنفسهم : أليس من حقنا ان نفرح ولو مرة واحدة ؟ أمن المقدر علينا انة كلما نبغنا فى شىء واعتلرف لنا العالم بالتفوق فى شىء يأتى من يقول ان هذا النابغة وهذا العبقرى قد أخطأ أخطاء فاحشة ؟ البعض يصر إذن على الإحتفاظ بهذا المكسب بأى ثمن ( العالم يقول ان يوسف شاهين المصرى عبقرى . فهو إذن عبقرى وليمتنع إذن اى نقد وليخرس اى لسان يحاول ان ينزع منا هذا المكسب , لقد حاول ناقد سينمائى كبير ومرموق هو مصطفى درويش فى مقال لة فى مجلة إبداع ان يشرح ما طرأ على مهرجان كان من تغيرات عبر السنين وكيف اصبح يخضع لتأثير عوامل كثيرة بعضها لا علاقة لة بالفن السينمائى , فإذا بكاتب مرموق اخر يتصدى لة غاضبا بكلام يتعلق بحب مصر وسمعة مصر , بل ويجد رئيس تحرير مجلة إبداع نفسة مضطرا ان يتبرأ من المقال بإضافة هامش يقول إن هذا هو رأى الكاتب وحدة وان هناك مقالا اخر بنفس المجلة يشيد بيوسف شاهين !

وأنا أجد هذا الموقف موقفا مدهشا للغاية إذ انة يعكس ثقة ضئيلة بالنفس من ناحية وترتيباً معيناً للأولويات من ناحية أخرى وخلطاً معيباً للأمور من ناحية أخرى وخلطاً غريبا للامور من ناحية ثالثة ؟ فلماذا يمنعنى تقدير الأجنبى لأحد أبنائى من أن أوجة النقد لهذا الإبن ؟ ولماذا أعلق أهمية بهذا القدر على رضا الأجنبى عنى حتى أنسى كل ماعداة ؟ ولكن الأمر يصبح أغرب وأكثر مدعاة للدهشة عندما تكون لدى اسباب قوية للإعتقاد بأن تقدير الأجنبى لأحد أبنائى ليس خالياً من الغرض وأنة ليس حسن النية ؟ مائة بالمئة بل مدفوع بأغراضة وأهدافة الخاصة التى تجعلة مستعدا لأن يمنح تقديرة ورضاة لأقل أبنائى ولاء لقضاياى ويظهر الإستهزاء والاحتقار لأبنائى المخلصين حقيقة مهما بلغ نبوغهم وتفوقهم ويذكرنى هذا بشدة بموقف وسائل الإعلامالغربية من أنولر السادات حينما كان ينفذ أغراض أمريكا واسرائيل فى مصر فرفعوة الى اعلى عليين ونعتوة بأجمل الصفات وهو من هو حينئذ أيضا كان السادات وانصارة متذرعون بهذة الحجة الواهية ( كل من يسىء الى السادات يسىء الى مصر , وكادوا ينهشون لحم يوسف إدريس لأنة تجرأ وأنتقد سياسة السادات قائلين إن يوسف إدريس يشوة بذلك سمعة مصر.

الان أيضاً نجد من يقول لنا بطريقة أو بأخرى إن توجية النقد ليوسف شاهين هو توجية النقد إلى مصر ولكن قليلاً من التأمل يؤدى بالطبع إلى القضاء على كل دهشة فلماذا لا يحدث كل هذا ونحن نعيش عصر إنقلاب كل المعايير وإختلال ترتيب كل الأولويات ؟ عصر تحول فية الناس واحداً بعد الاخر بسرعة مرعبة إلى خراتيت من نوع خراتيت يونسكو , من لم يتحول إلى خرتيت بإغراء المال , أو بالخوف من تلويث السمعة , تحول إلى خرتيت لمجرد الإنصياع للمناخ العام , كل من يحاول ان يميز بين مصر ويوسف شاهين يضيع صوتة بين أصوات الخراتيت العالية التى تصفة بأنة يلوث سمعة مصر , وكل من يحاول التمييز بين التدين اللطيف السمح وبين الإرهاب المجرم يوصف بالغوغائية , كما يتهم بالجمود والتجرد والتزمت , كل من يحذر من الخلط بين موقف بن رشد الفكرى وبين رقص ليلى علوى .