Sunday, August 24, 2008

عفريت اسمه التمرد‏

عن جريدة الأهرام :
بقلم: نبيل عمر

التمرد عبارة قبيحة في كل مجتمع تقليدي‏,‏ فكرة سيئة في أي بيئة مطيعة‏,‏ شبح مطارد في عالم اليقين‏,‏ صرخة عالية في سماء الصمت‏,‏ رؤية جانحة في حياة هادئة‏..‏



والتمرد قرين الشك‏,‏ وقد يكون أبلغ ترجمة عملية بالصوت والصورة لفكرة الفيلسوف الألماني الشهيرة أنا أشك إذن أنا موجود‏,‏ وإذا كان الشك هو أول الطريق إلي المعرفة‏,‏ فالتمرد هو أول خطوة للسير فيه‏,‏ وشئ طبيعي جدا أن ينطلق التمرد في مواجهة السلطة‏,‏ أي سلطة‏,‏ سلطة الأب‏,‏ سلطة القبلية‏,‏ سلطة الكهنة‏,‏ سلطة المدرسة‏,‏ سلطة التقاليد والأعراف‏,‏ سلطة النظام العام‏,‏ فالسلطة منذ تأسيس أول جماعة انسانية هي قيد الحرية‏,‏ أداة ضبط وربط وتنظيم وخطوط مرسومة مثل إشارات القدر‏,‏ علي الإنسان الفرد أن يمضي حسب علاماتها وتعليماتها‏!‏ فالسلطة يلزمها الطاعة‏..‏

لكن الإنسان الذي تعد الحرية هي أثمن قيم وجوده لايتوقف عن الشك في جدوي هذه السلطة وأهدافها ومراميها وأساليبها وأسباب طاعتها‏,‏ فيحاول دوما أن يفرد لنفسه أجنحة ويحلق بها في سماوات بعيدة خارج المألوف‏,‏ أجنحة من التمرد‏..‏

وبالتمرد نهض الإنسان وأسس الحضارة وابتكر وجدد واكتشف‏,‏ فالإنسان الأول تمرد علي قوة الطبيعة وسطوتها وقسوتها‏,‏ فعمل علي أن يروضها‏,‏ ثم تمرد علي ظلام الكهف فبني أول مسكن‏,‏ وتمرد علي الجمود فهاجر إلي أماكن أبعد‏,‏ تمرد علي الجهل فصنع المعرفة‏..



الفارق بين التخلف والتقدم‏..‏ حالة تمرد‏.‏ التخلف مجتمع تعايش مع واقعه ورضي به وتقولب داخله‏:‏ قيما وسلوكا ومعرفة وعملا‏..‏ فيزداد تخلفه وتنمو حواجزه وتتسع قوائم المحرمات والممنوعات فيه باسم المحافظة علي استقراره وأخلاقه وقيمه‏,‏ وفي النهاية تسيطر عليه مخاوفه من التجديد ومن كل جديد‏,‏ فيحيا أسيرا لها‏!



التقدم مجتمع متمرد دوما علي واقعه ولايرضي به ويرفض أن يتقولب داخله‏,‏ فيقفز إلي التجديد وينسف حواجز حرية التفكير والإبداع‏,‏ ويدفع ناسه إلي المغامرة والتجريب‏,‏ ولايخيفه إلا العودة إلي الماضي‏..‏ فهو باحث نهم عن المستقبل ‏,‏ فيسابق الريح ولايسجن نفسه خلف أي أسوار‏

وقد شاهدت فيلما بديعا عن علاقة التمرد بالسلطة‏,‏ هو فيلم البوصلة الذهبية‏,‏ فكرة عميقة تفضح علاقة الود المفقود بين أصحاب السلطة والأرواح المتمردة‏,‏ فالسلطة هي أكبر غواية في تاريخ الإنسان‏,‏ من يسقط في حبائلها لايستطيع الفكاك من فتنتها وسحرها وقبضتها‏,‏ فيعيش لها وبها حتي لو تحول إلي وحش كاسر‏,‏ والتمرد هو تهديد دائم لهذه السلطة‏,‏ محاولة جادة لتقليصها وتهذيب مخالبها‏,‏ ضربة علي رأس عاشقها ومدمنها لنزعها منه أو لتدريبه علي حسن استخدامها‏..‏

وبالرغم من أن الفيلم حدوتة خيالية أسطورية تجري في قارة أوروبا في القرن التاسع عشر إلا أنها مبنية بالكامل علي صراع بين الحكام المهيمنين علي السلطة والروح المتمردة في الإنسان‏,‏ فهؤلاء الحكام يعملون بجدية مفرطة وتخطيط محكم علي نزع روح التمرد من الناس حتي يعتادوا علي الطاعة فلا يسألون ولايفكرون ولايهددون السلطة‏..‏

والإنسان في الفيلم له قرين داخلي أو عفريت هو أصل التمرد فيه‏,‏ يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته‏,‏ ويحضه علي التساؤل ورفض الطاعة المطلقة‏..‏ وهذا العفريت يخرج إلي الوجود علي شكل حيوان‏!‏

وفكر أصحاب السلطة كثيرا في التخلص من هذا العفريت القابع داخل الإنسان‏,‏ ورأوا أن الأجيال القديمة التي تمردت من قبل قد اعتادت علي الطاعة في النهاية وأدمنتها ولم تعد هذه العفاريت قادرة علي إعادة شحن طاقة التمرد فيها مرة ثانية‏,‏ فاستسلمت لقدرها ورضت بواقعها وأحنت رأسها ومشت جنب الحائط‏..‏ وعاشت لا تسأل ولاتعترض‏.‏

لكن الأجيال الجديدة مختلفة تماما‏,‏ مازال الحماس يسري في دمائها وروحها وثابة وعفاريتها في منتهي الشقاوة والتحريض‏,‏ ويمكن أن تشب عن الطوق وتنمو وتكبر وهي محملة بطاقة هائلة من التمرد‏,‏ وقد تهز أركان السلطة مستقبلا وتهدد أصحاب هذه السلطة‏..‏

والحل هو الفصل والعزل الدائم ما بين كل انسان وعفريته المحرض علي التمرد‏..‏ ووضع هذا العفريت في الأسر إلي الأبد‏.‏

وليكن هذه العزل مقصورا علي الأطفال‏..‏ حتي تكبر أجيال جديدة لاتعرف معني التمرد ولاتعيش إلا بالطاعة لأصحاب السلطة‏..‏

وبالفعل اخترع هؤلاء الحكام بمساعدة العلماء جهازا خاصا‏,‏ إذا وضعوا فيه الطفل‏,‏ يستطيعون إخراج عفريت التمرد منه فيأخذونه بعيدا ويقضون عليه‏!‏

وبالطبع يلجأ أصحاب السلطة إلي أساليب العنف والدهاء والخبث والخداع في تنفيذ هذا المخطط الجهنمي‏,‏ وينفونهم فيخطفون الأطفال من ذويهم ويسافرون بهم إلي الشمال‏,‏ حيث معمل فصل عفاريت التمرد‏!‏

فكرة أكثر من رائعة محملة بقيم جميلة ونبيلة‏,‏ تعلمنا إزالة الأتربة والصدأ عن عقولنا ونفوسنا‏,‏ ورفض المألوف من الأشياء والخروج عليها وتحطيمها وبناء عوالم جديدة دوما‏..

‏ ألم يفعل ذلك أفلاطون وأرسطو وجاليليو وفولتير وابن رشد ونيوتن وأينشتاين ومحمد علي وعبد الله النديم وجمال الدين الأفغاني وسلامة موسي ونجيب محفوظ وغيرهم؟‏


5 comments:

  1. لطالما رأيت المجتمع شجرة تتعاقب عليها الفصول، فهي اليوم نضرة الأوراق زاهية ازهارها، ولكن غدا قد تجف اوراقها وتزبل ازهارها ويهجرجها جمالها. حينها تحتاج الشجرة لمن ينفض عنها كل زابل وبالي استعداد لاستقبال اوراق وازهار جديدة لحياة جديدة.
    المتمردين هم من يقومون بهذة العملية المرهقة للمجتمع ولهم، وكأنهم شوكة في ظهر المجتمع. هم من لا ينظرون لم وصلت اليه المجتمعات، بل يناشدونها الوصول لما يجب ان تصل اليه.
    بدون تمرد لا تجديد
    تحياتي

    ReplyDelete
  2. المتمرد هو بطل تراجيدي في عصور الطحين..اد هو قد يناضل من أجل فتح برقع، من أجل بصيص من النور.. وكثيرا ما يخيل لي أننا لمك نتجاوز عصور ألف ليلة لا بالكثير ولا القليل..
    التمرد والثورة فكرة جوهرية لكن تحققها في الظروف الحالية أصبح عسيرا.. اد من السهل رفها كشعار لكن من الصعب وضعها حيز التطبيق..
    تحياتي على الفكرة والتدوينة

    ReplyDelete
  3. اول مرور
    مدونة جيدة وموضوعاتها تتشابة مع افكارى لذلك تستحق ان تكون ضمن مفضلتى
    تحياتى
    انتظر زيارتك

    ReplyDelete
  4. تحية طيبة... أحييك على هذه المدونة
    المشكلة في مجتمنا و تاريخنا كله الايمان الكامل بأنه ليس في الامكان أبدع مما كان ... وأننا اذا أردنا أن نعرف موقع القمر فتشنا في كتب علاها الغبار أو فتحنا القران و اذا حاول احد الاختلاف يحرق و ينفى أو يقال عنه أنه تاب في أيامه الأخيرة!!!!بمعنى اخر نحن مجتمعات مفلسة فكريا .

    ReplyDelete
  5. التقدم مجتمع متمرد دوما علي واقعه ولايرضي به ويرفض أن يتقولب داخل

    الجملة دى ملخص لحالتنا
    فلسفتنا دلوقت الرضا و قبول القضاء و القدر و الخوف على التابوة الاجتماعى وكل واحد محصور جوة صورة بورق سوليفان مغلف نفسة جواها وكلة بيفضل يمشى مع القطيع احسن يتوصم انه متمرد
    اما على مستوى المجتمع فلسفة الخوف من السلطة وانا مالى بتخلى المجتمع يفضل محلك سر لان حركة المجتمع نابعه من حركة مجموع افرادة وبالتالى لا حراك ولا تغيير فى المجتمع كلة جوة التابوة وكلة راضى بالقالب

    شكرا على النقل

    ReplyDelete